فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}.
وهذه القصة مذكورة أيضًا في سورة البقرة، ونعرف أن قوله سبحانه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ}، ولم يذكر الحق من القائل؛ لأن طبيعة الأمر في الأسباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عينًا يشرب منها، وكل سبط له نقيب، وهذا دليل على أنهم لا يأتلفون؛ فلا يكون القول من واحد إلى الجميع، بل يصدر القول من المشرع الأعلى وهو الحق إلى الرسول، والرسول يقول للنقباء، والنقباء يقولون للناس.
وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء، والنقباء قالوه للأسباط، وفي آية أخرى قال الحق: {وَإِذْ قُلْنَا}. وهذا القول الأول وضعنا أمام لقطة توضح أن المصدر الأصيل في القول هو الله، ولأنهم أسباط ولكل سبط مشرب؛ لذلك يوضح هنا أنه أوحى لموسى. وساعة ما تسمع {وإذ} فاعلم أن المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية، لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا، لكنهم قالوا: لن ندخلها أبدًا لأن فيها قومًا جبارين وأضافوا: {... فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
والحق لا يبين لنا القرية في هذه الآية؛ لأن هذا أمر غير مهم، بل جاء بالمسألة المهمة التي لها وزنها وخطرها وهي تنفيذ الأمر على أي مكان يكون: {اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا}.
ويوضح الحق: أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام، وتفجير ماء غماما، وتفجير ماء من صخر، ومَنّ وسلوى. وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}. وقديمًا كان لكل قرية باب؛ لذلك يتابع سبحانه: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا}.
والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا: يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لأمرك وجئنا إلى القرية التي أمرتنا أن نسكنها، وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين؛ لأن الله قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم عليهم ورفّههم فيه. وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهو: {... نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين} [الأعراف: 161].
وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة، أي سلب مضرة، وجلب منفعة، لكن هناك في سورة البقرة قد جاء النص التالي: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وادخلوا الباب سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} [البقرة: 58].
فالكيان العام واحد ونجد خلافًا في الألفاظ واللقطات عن الآية التي وردت في سورة الأعراف. أول خلاف {وَإِذْ قُلْنَا}، و{وَإِذْ قِيلَ}، وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كنا أوضحنا من قبل. ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه: {ادخلوا} وفي آية سورة الأعراف يقول: {اسكنوا}، ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا، وأوضح ذلك بقوله في سورة الأعراف: {اسكنوا} ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للإِقامة.
وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية؛ لأنه لا يسكن أحد في القرية إلا إذا دخلها.
وهكذا نرى أن كلمات القرآن لا تأتي لتكرار، بل للتأسيس وللإِتيان بمعنى جديد يوضح ويبين ويشرح. ويقول الحق هنا في سورة الأعراف: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}. وفي آية سورة البقرة يقول: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}.
وحين أمرهم الله بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا، على الفور والتوّ بتوسع، لذلك أتى بكلمة {رغدًا} لأن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة، لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم أن يأكلوا؛ لأن السكن يحقق الاستقرار ويتيح للإِنسان أن يأكل براحة وتأن. وقال الحق هنا في سورة الأعراف: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا}. أي أنه قدم قولهم: {حطة} على السجود، وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال: {وادخلوا الباب سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ...} [البقرة: 58].
جاء الحق بهذا الاختلاف لأنه علم أن انفعالات السامعين تختلف ساعة الدخول، فهناك من ينفعل للقول، فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من الله، وهناك آخر ينفعل للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذًا لأمر الله. وأيضًا قال الحق هنا في سورة الأعراف: {... نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين} [الأعراف: 161].
وفي سورة البقرة يقول: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين}.
ونعلم أن صيغة الجمع تختلف؛ فهناك جمع تكسير وجمع تأنيث، ففي جمع التكسير نغير من ترتيب حروف الكلمة، مثل قولنا قفل فنقول في جمعها أقفال. أما في جمع التأنيث فنحن نزيد على الكلمة ألفًا وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علامة تأنيث، مثل قولنا فاطمة، وفاطمات، وأكلة، وأكلات وهذا جمع مؤنث سالم، أي ترتيب حروفه لم يتغير، وجمع المؤنث السالم يدل على القلة. لكن جمع التكسير يدل على الكثرة فجاء سبحانه بجمع المؤنث السالم الذي يدل على القلة وبجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لاختلاف درجات ونسب الخطايا؛ لأن المخاطبين غير متساوين في الخطايا، فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة، وهناك من أخطأ قليلًا. والاختلاف حدث أيضًا في عجز الآيتين، فقال في سورة البقرة: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} وجاء عجز سورة الأعراف بدون واو فقال: {سَنَزِيدُ المحسنين}.
وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول: {اغفر لنا وأنت خير الغافرين}، {وارحمنا وأنت خير الراحمين}، {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة}. وهنا يوضح سبحانه: أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن أرفع عنكم الخطايا. لكني سأزيدكم حسنًا، وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع. كأن الله حينما قال: {خطاياكم} بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و{خطيآتكم} التي تدل على القلة انشغلوا وتساءلوا: وماذا بعد الغفران يا رب فقيل؟ لهم: {سَنَزِيدُ المحسنين} هل يغفر لنا فقط، أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضًا؟ وكانت إجابة الله أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم بالحسنات. وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة الأعراف لنعرف أن الآيات لا تتصادم مع بعضها البعض، بل تتكامل مصداقًا لقول الحق: {... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82]. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}.
أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال موسى: يا رب، أجد أمة انجيلهم في قلوبهم؟ قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد. قال: يا رب، أجد أمة يصلون الخمس تكون كفارة لما بينهن؟ قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد. قال: يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون؟ قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد. قال: يا رب، اجعلني من أمة أحمد. فأنزل الله كهيئة المرضية لموسى {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي ليلى الكندي قال: قرأ عبدالله بن مسعود {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} فقال رجل: ما أحب إني منهم. فقال عبدالله: لم ما يزيد صالحوكم على أن يكونوا مثلهم؟
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: {ومن قوم موسى أمة} الآية. قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطًا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله له نفقًا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مستقبلين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا} [الإِسراء: 104] ووعد الآخرة عيسى ابن مريم. قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإن الله يقول: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} وأما النصارى فإن الله يقول: {منهم أمة مقتصدة} [المائدة: 66] فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] فهذه التي تنجو من هذه الأمة.
وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل قال: إن مما فضل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه عاين ليلة المعراج قوم موسى الذين من وراء الصين، وذلك أن بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، دعوا ربهم وهم بالأرض المقدسة فقالوا: اللهمَّ أخرجنا من بين أظهرهم، فاستجاب لهم فجعل لهم سربًا في الأرض فدخلوا فيه، وجعل معهم نهرًا يجري وجعل لهم مصباحًا من نور بين أيديهم، فساروا فيه سنة ونصفًا وذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الذي هم فيه، فأخرجهم الله إلى أرض تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين بها، ليس فيها ذنوب ولا معاص، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ومعه جبريل، فآمنوا به وصدقوه وعلَّمهم الصلاة وقالوا: إن موسى قد بشَّرهم به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} قال: بينكم وبينهم نهر من سهل، يعني من رمل يجري.
وأخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن عمرو قال: هم الذين قال الله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} يعني سبطان من أسباط بني إسرائيل يوم الملحمة العظمى ينصرون الإِسلام وأهله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: إن لله عبادًا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس لا يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يزرعون ولا يحصدون ولا يعملون عملًا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، ولهم شجر على أبوابهم لها ثمر، فمنها يأكلون.
قوله تعالى: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {فانبجست} قال: انفجرت.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا} قال: أجرى الله من الصخرة اثنتي عشرة عينًا، لكل سبط عين يشربون منها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم. أما سمعت بشر بن أبي حازم يقول:
فاسلبت العينان مني بواكف ** كما انهل من واهي الكلى المتبجس

. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية} الآيةُ.
اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتًا من وجوه:
أحدها: أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة، فقال وإذْ قُلْنا وهاهنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ.
وثانيها: قال في سورة البقرة {ادخلوا} وقال هاهنا {اسكنوا}.
وثالثها: قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء، وهاهنا بالواو.
وارابعها: قال هناك رَغَدًا وأسقطها هاهنا.